إتفاقية سايكس – بيكو
أيار 1916
مقدمة
آرا دمبكجيان
قبل الحديث عن إتفاقية سايكس-بيكو التي وُقِّعَتْ في ربيع 1916 يجب أن نعودَ بذاكرتنا الى مائتي سنة مضت قبل التوقيع عليها، أي أن نمرَّ على الأحداث الجيوسياسية و العسكرية لشعوب تلك المنطقة خلال قرنين من إبرامِها بين دول الحلفاء في أثناء الحرب العظمى (العالمية الأولى) إنكلترا، فرنسا، روسيا و إيطاليا.
من الطبيعي أن تُبْرَم إتفاقيات تقسيمِ ممتلكات الدول المنهزمة في الحروب بعد انتهائها، و لكن الملاحظ هنا أن إتفاقية سايكس – بيكو أُبْرِمَتْ من دون إنتظار نهاية الحرب العالمية الأولى، بل في منتصفها، إذ كان الكبار و الصغار يتلهفون على تقسيم ممتلكات “الرجل المريض” بعد أن ثبت أن مرضَهُ ليس له شفاء، أولاً، و أن أسياد العالم قد أتفقوا على توزيع الإرث، ثانياً.
لم تأتِ مقولة “للجغرافية سياستها” إعتباطاً في القاموس الدبلوماسي الأجنبي…فليست للدول المعزولة عن البحار سياسة بحرية و لا هموم صناعة الأساطيل و غيرها، على عكس الدول التي تتنفس عن طريق أساطيلها البحرية و تعيش من خلالها. قد أحسَّت روسيا بأهمية مضائق البوسفور و الدردنيل في ذلك اليوم الذي وصلت حدودها الى البحر الأسود في أيام حكم القيصر بطرس الأكبر (1672-1725).
الحلم الروسي
يذكر الكاتب و المؤرخ الروسي لوكين في مؤلَّفِهِ (مسيرة الشمال الكبرى): “…توسَّعّت روسيا خلال أربعمائة عام بمقدار خمسين ميلاً مربعاً في اليوم، إذ كانت تبلغ مساحتها 850 ألف ميل مربع سنة 1500 فأصبحت ممتدة على مساحة 8200 ألف ميل مربع سنة 1900.”
فإذا كانت روسيا آنذاك تريد الحياة كان لِزاماً عليها أن تَنزِل من الشمال البارد نحو المياه الدافئة الواهبة للحياة. و كان لزاماً عليها أيضاً، و بكل جبروتها و قوّتِها و بثقلِ أراضيها الشاسعة، أن تنزلَ نحو البحر الأسود، و بإرادتها أو رغماً عنها أن تضعَ قدمَها في ذلك البحر، قاطعةً المضائقَ من هناك و متوغِّلةً في عُمُقِ الجنوبِ الدافئ حيث تسبح و تُبْحر في مياهها الدافئة على مدار السنة و بحرية تامة.
و لكن مفاتيحَ البحر الأسود كانت في يد سلاطين بني عثمان، و كانت الدبلوماسية الأوروبية عامة، و البريطانية-الفرنسية خاصة، تعمل بكلِّ دهائها و حنكتها على إبقاءِ تلك المفاتيح بعيدة عن متناولِ روسيا و إبعاد شبح الموت عن “الرجل المريض” لتأخير إنهيار تركيا لعدم معرفتها ما كان سيولد على أنقاض تركيا. لهذا السبب ظلت تركيا باسطة جناحيها على ضفافِ المضائق لقرونٍ طويلة لأن أقوياء العالمِ لم يجدوا أسلوباً للتفاهم مع بعضهم حول ميراثِ بيزنطة… لقد طالبت روسيا مراراً بالقسطنطينية (إسطنبول) و مضائق البوسفور و الدردنيل على أساس كونها (حامية المسيحية) في الشرق. و كانت هذه الفكرة قد تولَّدت لديها بعد زواج الأمير الأكبر لعموم روسيا إيفان الثالث في 1472 ميلادية من الأميرة صوفيا باليولوك آخر أميرات الأمبراطورية البيزنطية التي سقطت في 29 أيار 1453 ميلادية.
كانت الفكرة السائدة آنذاك أن موسكو هي روما الثالثة كمركزٍ للمسيحية الأوروبية (بعد سقوط روما الأصلية “الرومانية” ثم روما الثانية، أي القسطنطينية “البيزنطية”) و لن تكون هناك روما رابعة أبداً…
تضارب المصالح الروسية-البريطانية
عارض الدهاء الدبلوماسي البريطاني، معتمداً على القوة البحرية البريطانية آنئذٍ، مسألة نزول روسيا الى مياه البحر الأبيض المتوسط الدافئة عبر البحر الأسود و المضائق التركية لعدَّةِ أسبابٍ مهمَّة، و الأهم بالنسبة الى إنكلترا هي الهند و مُجْمَل الطرق البحرية و البرية التي توصل الجزيرة المنعزِلة الأم في أقصى الغربِ الأوروبي بالهند – دُرَّة تاجها – و ليست المضائق. فالأهم و الحيوي بالنسبة الى إنكلترا كان الخليج العربي مع عموم الأرضِ العربية بإعتبارها نقطة العبور و الوصول الى الهند.
كانت إنكلترا أمَّنَت سيطرَتَها على هذه الأراضي المترامية الأطراف عبرَ طريقين مهمّين أحدهما يوصل المحيط الهندي بالبحر الأبيض المتوسط (عبر البحر الأحمر و قناة السويس)، و أمّا الآخر فيوصل المحيط الهندي بإيران و بلاد ما بين النهرين (عبر الخليج العربي و شط العرب). و كان الحيوي الى إنكلترا هو المحيط الهندي، لأن الأمبراطورية الحقيقية تقع هناك. و الأهم هي تلك المتاريس – الخليج العربي و الأراضي العربية – التي تؤمِّن سيطرة إنكلترا على ذلك المحيط و تُبْعِد شبحَ أي قوةٍ أجنبية عن تلك المنطقة. و ظل هدف بريطانيا الرئيس حتى بداية الحرب العالمية الأولى إستقطاع منطقة البصرة لأغراضٍ أستراتيجية تتعلق بحماية مشارف الهند. و لكن قوات الإحتلال البريطانية التي إحتلّت البصرة عام 1914 سرعان ما أكتشفت بطلان خططها العسكرية القائمة على تقسيم العراق وفق الخطوط القديمة التي كانت تقوم عليها السيطرة البريطانية على الهند. فبدأت بعد ذلك الجهود العسكرية لإحتلال بغداد و بقية إمتدادات وادي الرافدين و تحويلها الى مركز إمبراطورية بريطانية جديدة في المنطقة العربية و أسيا الوسطى لتأمين طريق الهند عبر الخليج العربي .
لقد وافقت إنكلترا في 1915 على أن تجلب روسيا الى القسطنطينية و أرمينيا التركية لأن روسيا كانت قد وافقت بدورها أن لا تنزل الى الخليج العربي و لا الى مناطق أبعد من أرمينيا التركية، أي الى العالم العربي. فقد كانت روسيا قد وعدت في مذكرتها في 4 آذار 1915، و في مقابل أن تحصل على القسطنطينية و مضائق البوسفور و الدردنيل من الحلفاء، أن يكون بإمكان الدولتين الحليفتين، إنكلترا و فرنسا، أن تطمئنّا بأنهما ستلقيان من الحكومة القيصرية المعاملة نفسها لتحقيق أهدافهما المستقبلية في المناطق المختلفة من الإمبراطورية العثمانية أو في أماكن إخرى.
كانت ايران تأتي في المرتبة الأولى من هذه “المناطق المختلفة” و “الأماكن الأخرى”. إذ بعد صراعاتٍ طويلة حولها (و كذلك أفغانستان و التيبت) وقَّعَت كل من إنكلترا و روسيا على المعاهدة الإنكليزية-الروسية في 1907. و بموجب تلك المعاهدة قّسِّمَت ايران الى ثلاثة مناطق، المنطقة الشمالية الواقعة تحت النفوذ الروسي (على مساحة 790 ألف كيلومتر مربع) و المنطقة الجنوبية الواقعة تحت النفوذ الإنكليزي (على مساحة 355 ألف كيلو متر مربع) و المنطقة الوسطى أو المحايدة (على مساحة 490 ألف كيلو متر مربع).
بعد أن وافقت كل من إنكلترا و فرنسا بمذكرتيهما الى روسيا في آذار 1915 على التنازل عن القسطنطينية و المضائق الى الأخيرة، و وافقتا أيضاً أن تُعطى الحلول النهائية حول ما ستنالان هما (في المناطق المختلفة من الإمبراطورية العثمانية أو في أماكن أخرى)…فقط في نهاية الحرب و في أثناء معاهدة السلام التي يجب أن تُدْرَسَ مجتمعة و تُوَقَّعَ في الوقت نفسه من قِبَلِ الحلفاء الثلاثة. و لكن أنكلترا من دون أن تنتظر نهاية الحرب، و من غير الحلفاء الثلاثة مجتمعين، و لوحدها فقط، و كأنما دُرِسِت مطالبها من قبل الحلفاء، تقدَّمَت منفردة من روسيا و حاولت أن تحصل عليه سلفاً ما كانت ستحصل عليها من ايران في الغد…فأكدت الحكومة الروسية و على لسان وزير خارجيتها س. سازونوف في 20 آذار 1915 الى لندن على موافقة الحكومة القيصرية على إلحاق المنطقة المحايدة الإيرانية الى المنطقة الإنكليزية القائمة.
و بدورها فعلت فرنسا الشيء نفسه.
ففي 16 آذار 1915 تقدمت منفردة من روسيا طالبة منها موافقتها على اعتبار مناطق كيليكيا و سورية مع فلسطين ممتلكات فرنسية في نهاية الحرب بعد أن ضمنت موافقتها على التنازل عن القسطنطينية و المضائق التركية الى روسيا.
لقد جرت كل هذه الأمور بسرعة و من دون إضاعة وقت و أدّت الى ولادة إتفاقية سايكس-بيكو مباشرة من الرحم السياسي لمذكرات آذار 1915 بين الحلفاء و تعرَّضت تركيا الآسيوية الى تقسيم جوهري حتى قبل إنتهاء الحرب.
في الواقع كان على هذه الإتفاقية أن تولد عند إنتهاء الحرب بالنصر لصالح الحلفاء، و لكن ولادتها كانت مُبَكِّرَة نوعاً ما في ربيع 1916. ففي تلك الأثناء إستسلم الجيش الإنكليزي بقيادة الجنرال شارلز تاونزند في معركة (كوت العمارة) في العراق الى قائد الجيش العثماني خليل باشا بينما كانت الجيوش الروسية المنتصرة تتقدم نحو بلاد ما بين النهرين بعد أن نزلت من سفوح بيتليس و موش متوجهة الى الموصل و بغداد و داحرة أمامها الجيوش التركية.
لقد عجَّلَ الحلفاء من التوقيع على الإتفاقية الخاصة بتقسيم تركيا لخوفهم من قيام الجيش القفقازي باحتلال الموصل و بغداد و المناطق الواقعة على الخليج العربي و تثبيت أقدامه هناك حيث مصالح إنكلترا و فرنسا. فبعد أن إتفقت كل من إنكلترا و فرنسا مسبقاً على هذه المسألة الحيوية، قدّمتا مشروع التقسيم في 9 آذار 1916. و بعد مقايضاتٍ و تصحيحاتٍ معيّنة تم التوقيع على الإتفاقية رسمياً بين روسيا و فرنسا في 26 نيسان (بموافقة إنكلترا) و بين إنكلترا و فرنسا في 9 و 16 أيار (بموافقة روسيا).
توزيع الحصص
كانت بريطانيا ستحصل بموجب هذه الإتفاقية على بلاد ما بين النهرين مع بغداد (و لكن دون الموصل)، و أعتبر الجزء الأكبر من الجزيرة العربية منطقة نفوذٍ إنكليزية، مع تدويل فلسطين و حصول إنكلترا على موانئ حيفا و عكا.
و أما حصة فرنسا فكانت سوريا مع كيليكيا و الجزء الأكبر من كردستان و حتى قسماً من الأناضول الشرقية. و كمنطقة نفوذ حصلت فرنسا على المنطقة الواقعة من نجد نحو الشمال و كذلك منطقة الموصل (مع الأراضي الغنية بالنفط).
و أما روسيا، فبعد إكمال مسألة القسطنطينية و المضائق التي حصلت عليهما بإتفاقية خاصة، فقد حصلت على مناطق طرابزون، أرضروم، بايزيد، فان و بيتليس (مع ضواحيها)، جزء من كردستان و شريط من الأرض يمتدُّ على ساحل البحر الأسود من طرابزون الى الغرب مع بقاء الإمتيازات الفرنسية في سكة الحديد الموجودة في الأراضي التي أصبحت من حصة روسيا. وهكذا بقيت روسيا بعيدة عن منطقة الخليج العربي و المحيط الهندي بعد أن ضَمَنَتْ مبتغاها في إمتلاك القسطنطينية و المضائق….
شاركت إيطاليا مع الثلاثة في هذا التقسيم بعد عدة أشهر، أي بعد أن أعلنت الحرب على ألمانيا في آب 1916، و حصلت ايطاليا بموجب الإتفاقية على مناطق آتاليا، قونية، آيدن و إزمير. ففي إتفاقية سان جان دي موريين تم خلق نطاق أخضر (آنطاليا و إزمير) لإيطاليا، ثم وَعَدَت إنكلترا و فرنسا اليونانيين بإزمير … و بعدها رمى مصطفى كمال اليونانيين في إزمير في البحر بمساعدة الحلفاء أنفسهم …
عند سماعه عن هذه الإتفاقية لأول مرة هتف الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون قائلاً: “يتراءى لي كأنما الحديث يدور عن شركة جديدة لبيع الشاي، سايكس-بيكو”.
خاتمة
كانت الدول الإستعمارية آنئذٍ تضحك على ذقونِ بعضها البعض حفاظاً على مصالحها الخاصة، و لم تتوضح صورة هذه الألاعيب المعقدة أبداً كما وضحت في أثناء الحرب العالمية الأولى. و أما نحن فأصبحنا على بيِّنة من تلك الألاعيب فقط عن طريق الثورة الروسية. ففي 25 تشرين الأول 1917 إستولى البلاشفة على السلطة في روسيا بانقلابٍ قاموا به، و في 27 منه انتخب مؤتمر السوفييت الثاني لعموم روسيا مجلس المفوَّضين الشعبيين فقرر المؤتمر في جلسته الأولى نشر جميع المعاهدات السرية للدول الإستعمارية كافة. و بدأتِ الحكومة الجديدة العمل بسرعة في هذا المجال، و لم تمضِ ستة أسابيع على هذا القرار حتى كانت الوثائق السرية قد نُشِرَت ْفي سبعة أجزاء تحوي على أكثر من مائة معاهدة و إتفاقية و حلف و غيرها. و نُشِرَت في هذا السياق أيضاً المعاهدات السرية كافة المتعلقة بتقسيم تركيا…
في عام 1924 نَشَرَ الكرملين هذه المعاهدات الأخيرة مع إضافاتٍ مختلفة عليها في كتابٍ ضخمٍ و ثمين تحت إسم “الدول الأوروبية و تركيا في أثناء الحرب العالمية الأولى. تقسيم تركيا الآسيوية مع الوثائق السرية لوزارة الخارجية السابقة”. و قد ضمَّ المؤلَّفُ أيضاً خريطة نادرة تتناول تقسيم تركيا رسمها السير مارك سايكس، وزير خارجية إنكلترا آنذاك، و جورج بيكو، نظيره الفرنسي. لم تؤخذ الخريطة الأصلية من دواوين وزارة الخارجية الروسية و لكن تم تصوير الخريطة الملحقة بالكتاب من جديد من الأُنموذج الموجود في أوراق السفارة الفرنسية في بيتروكراد، و هي تتناول صيف 1917 عندما كانت الدول الكبرى تفاوض ايطاليا حول تقسيم ممتلكات تركية الآسيوية ثانية…و الغريب في الأمر أن المناطق الفرنسية و الإنكليزية و الإيطالية فقط حُدِّدَت على النسخة الأصلية من الخريطة، أما النطاق الروسي…فلم يُحَدَّد عليها.
آرا دمبكجيان
المصادر
1- نجم محمود، المقايضة: برلين-بغداد، منشورات الغد، لندن، 1991.
2- جريدة “الأخبار”، العدد 32، كلينديل/كاليفورنيا، 1997.
3- فاهان نافاسارتيان، المضائق: البوسفور و الدردنيل، باريس، 1947.